هشاميات

الأربعاء، ١٤ ربيع الأول ١٤٣٠ هـ

فلننصف أنفسنا أولاً

لا يكاد يخلو منزل في المملكة من هاجس البحث عن وظيفة ، بل إن البحث عن وظيفة أصبح جزءاً من منظومة هواجس تكاد تسيطر على الأسرة السعودية من ضمنها نوعية التعليم وإمكانية القبول في الجامعات بل وحتى الكليات والمعاهد الفنية والعسكرية وغيرها.
قد يبدو لأول وهلة أن العديد من هذه المشاكل تتطلب حلولاً عميقة ودراسات استراتيجية مستفيضة بينما قد يكون الحل ببساطة في قيام كل جهة بعملها المطلوب منها بطريقة إبداعية تخدم الأهداف العامة .
ولو أخذنا على سبيل المثال قضية السعودة التي تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام المسؤولين واستهلكت الكثير من الجهد سواء في القطاع الحكومي أو الخاص مثل القرار الشهير رقم (50) القاضي بتعديل نسب السعودة في المنشآت السعودية ، وتنظيم أيام المهنة وعقد اجتماعات مطولة لكبار المسؤولين مع رجال الأعمال ، وجهود مجلس القوى العاملة والغرف التجارية ، وتنظيم صناديق الدعم للتدريب ، والتخطيط للمشاريع الوطنية للتوظيف ، بالإضافة إلى آلاف الأطنان من المقالات والمعاملات الإدارية ومحاضر الاجتماعات لحل هذه المشكلة إلا أن الوضع يبدو في تفاقم مستمر .
إننا في عصر يتطلب منا السرعة في اتخاذ القرار وطالما أن بلادنا من أقوى الدول جذباً للعمالة الأجنبية حيث يصل عددهم إلى قرابة السبعة ملايين عامل ، فهذا يعني أن هناك حاجة ملحة لتلمس طريقة تتيح الفرصة العادلة للمواطن للحصول على الوظيفة التي تناسب مقدرته وكذلك إتاحة نفس الفرصة للقطاع العام والخاص لتلبية متطلبات العمل بطريقة مهنية واقتصادية .
لنحدد أولا الجهة المسؤولة عن تفعيل السعودة ، هل هي الحكومة أو القطاع الخاص؟ في رأيي أن كليهما مسؤول ولكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الحكومة لأن القرارات والأنظمة التي تصدرها تؤثر مباشرة على توجه القطاع الخاص الذي يبحث عن مصلحته وتحكمه بذلك آلية السوق ، وصاحب العمل بطبيعة الحال يبحث عن الأرخص .
فماذا يعني ذلك ؟ هل يمكن ترك المواطن السعودي لسوق النخاسة بعرضه في المزاد؟ لو كان الأمر كذلك لسهل على اليابان التشغيل من الفليبين أو أندونيسيا أو تايلاند وهم من دول مجاورة ويقبلون ب 25% مما يتقاضاه الياباني لكن القضية وطنية وأمنية ولا تترك الفرصة للمزايدات .
لذا فإن من أنجع الحلول في نظري وضع حد أدنى للرواتب لجميع الجنسيات في معظم المهن ـ ويمكن استثناء المهن المنزلية وما يماثلها في المرحلة الأولى ـ لأن معظم الوظائف المعروضة في سوق العمل وظائف بسيطة لا تتطلب تعليما خاصاً ولذلك ممكن شغلها بمواطنين سعوديين إذا كانت تلبي احتياجاتهم الأساسية ، فالسعودي ليس ذلك المخلوق المتغطرس السابح في بحر من الأوهام كما يريد أن يوهمنا به البعض بل هو مجرد مواطن يطلب حقه المشروع في وظيفة تمكنه من إنشاء أسرة ومواجهة أعباء الحياة ، وهذا ما حققته دول كثيرة أقل غنى من المملكة .
إن تجربة كبرى الشركات في المملكة مثل أرامكو وسابك وغيرها تثبت أن السعودي لا يستنكف عن أداء أي عمل موكل إليه ، بل إن من الظلم أن يدّعي البعض أن السعودي غير قابل للعمل وأن نسبة التسرب عالية ، بالطبع ستكون عالية لأن الراتب لا يتجاوز الألف ريال ، والملام الأول في هذه القضية ليس القطاع الخاص بل هو تباطؤ القرار الحكومي في وضع حد أدنى للأجور يجعل من صاحب العمل يبحث عن السعوديين ليوفر أمواله .
كذلك يردد الكثيرون أن السعودي يحتاج إلى إعادة تأهيل بما يتناسب مع احتياجات التنمية ، وهذا صحيح فإن قطاع التعليم يجب أن يبدأ فوراً بإعداد أبنائنا لمواجهة الحياة ولتكوين القدرات والأدوات اللازمة له لبناء الخبرة والاعتماد على الذات ، فليس من المعقول في ظل أن أولادنا لن يدخلوا جميهم في الجامعات أن نتركهم دون قدرات تلائم سوق العمل الحديث .
كذلك يردد البعض بأن على السعودي أن يكون في انضباط الانجليزي ورخص الهندي وتخصص الأمريكي ودقة الألماني وطواعية الفلبيني ، فما المطلوب ؟ تغيير الجينات ؟ أم غسيل المخ ؟ هل نطلب من السعودي أن يكون مختلفاً عن البشر في الكرة الأرضية ؟ إن هذه الصفات تتفاوت بين البشر بدليل التنويه عن عدد من الجنسيات ، والسعودي يتميز بالأمانة والإخلاص وهذه أهم الصفات بل ومنبع المزايا .
كما أن ساعات العمل إذا لم تكن محددّة حسب المتعارف عليه دولياً فسيخسر العامل السعودي المنافسة أمام العامل الأجنبي بسبب التزاماته الأسرية وواجباته الاجتماعية التي لا تنطبق على الوافدين العزاب .
فمن سيقبل مثلا بالعمل في محل تجاري لا يقفل أبوابه قبل الواحدة صباحاً ؟ وما الضرر في تحديد ساعات العمل التجاري؟
ما الذي نجنيه إذا استمرت محلات غسيل الثياب إلى منتصف الليل ؟ وهل ستموت نساؤنا حزنا لو أغلقت محلات الذهب والملابس عند السابعة مساء ؟ حتى لو كان هناك جوانب إيجابية مثل الاستفادة المادية سواء للمحلات أو لشركات الكهرباء والخدمات إلا أن هذا لا يبرر الثمن الروحي والمعنوي الذي ندفعه غالياً عند قبولنا لهذا الوضع ، ففضلاً عن عدم قدرة السعودي على مجاراة الوافد في هذا الاستنفار الإجباري ، فكذلك هناك سلبيات أخرى عديدة تؤثر على شريحة كبيرة من المجتمع وهم أبناؤنا الذين يسهرون إلى منتصف الليل ويضيعون أموالهم وأوقاتهم ويضحون بترابطهم الأسري وفوق ذلك كله يعرضون أنفسهم وغيرهم إلى خطر الحوادث من جراء السهر والتجول بالسيارات بلا هدف .
إن أكبر المحلات التجارية العالمية في الخارج المشهورة لا تسهر حتى السابعة مساء ولا يبقى بعد ذلك سوى نوعية معينة من المحلات التي يسمح لها بالعمل لمدة ثلاث أو أربع ساعات إضافية ، ولابد أن أصحاب القرار سافروا للخارج ورأوا ذلك بأعينهم .
عموماً ليس عيباً أن نستقطب المتخصصين وذوي المهارات العالية ، لكن العيب أن نستقطب الملايين من الوافدين لأعمال بسيطة المواطن أحق بها ولن يقبل بها طالما لن تقيم أوده .
فالتعليم الأساسي القوي ، والتأهيل المنهجي لسوق العمل ، و فرض حد أدنى للرواتب ، وتحديد ساعات العمل ، وقبل ذلك كله تغليب الوطن على المصالح الشخصية ، كفيل بإذن الله لجعل كلمة (سعودة ) قضية من الماضي تجاوزناها باقتدار إلى قضايا أهم وأجدى .


التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]



<< الصفحة الرئيسية